الإسراء والمعراج
ووسط هذه الآلام النفسية الرهيبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم واساه ربه فدعاه إلى أعجب رحلة عرفت في تاريخ البشرية ليعرف قدره عند ربه، ويثبت بها فؤاده ولتكون بمثابة ترويح عما لاقاه في سبيل دعوته، وهي هجرة الإسراء والمعراج
والإسراء: انتقال الرسول صلى الله عليه و سلم ليلا من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى في القدس
والمعراج: هو صعوده صلى الله وعليه وسلم من المسجد الأقصى إلى السموات العلى
اختلفت المؤرخون في الوقت الذي وقعت فيه هذه المعجزة فاليعقوبي والطبري وابن الأثير يجدون الإسراء والمعراج بعد نزول الوحي مباشرة وابن هشام و ابن كثير يجعلونها قبل وفاة أبى طالب و خديجة رضى الله عنهما و المشهود أنها وقعت بعد عودته صلى الله عليه و سلم من الطائف فى العام الحادى عشر للبعثة النبوية
و كما اختلفوا فى و قتها اختلفوا أيضا فى حقيقتها هل كانت بالروح و الجسد أم أنها بالروح فقط, أم أن الإسراء كان بالروح و الجسد و المعراج كان بالروح فقط, و لكل منهم دلالته, و الدكتور محمد حسين هيكل له رأى موجزه أن عقول الناس عاجزه عن فهم معنى الاسراء و المعراج فأختلفوا فيه, فروح محمد صلى الله عليه و سلم فى ساعة الإسراء و المعراج اجتمعت فى وحدة هذا الوجود و بالغة منتهى كمالها ولم يقف أمام ذهن محمد وروحه فى تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أوغيرهما من الحجب التى تجعل حكمنا نحن فى الحياة نسبيا و محدودا بحدود قوانا الحسية والعقلية, لقد تداعت فى هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد و اجتمع الكون كله فى روحه فوعاه منذ أزله الى أبده و ليس يستطيع هذا السمو الا قوة فوق ما تعرفه الطبائع الإنسانية فإذا جاء من بعد ذلك ممن اتبعوا محمدا من الناس من عجز من متابعته فى سمو فكرته و قوة أحاطته بوحدة الكون فلا عجب فى ذلك ولا عيب فيه لقصور عقله و طبيعته الإنسانية عن إدراك مثل هذا الحدث
و يرى الشيخ محمد متولى الشعراوى أن الإسراء والمعراج كانتا بالروح والجسد و أن الله سبحانه و تعالى لما كانت طبيعة الجسم البشرى لا تتفق مع ملكوت السماوات, أدخل فى بشرية محمد ما جعلها صالحة للصعود للسماوات
و لن نخوض فى غمار هذه الخلافات لأنها العقيدة أقرب منها إلى التاريخ والراجح أن رحلة الإسراء والمعراج كانت بالروح والجسد معا فالممعن فى الآية الأولى من سورة الإسراء والآيات الأولى من سورة النجم لا يملك إلا التصديق بذلك, وألفاظ هذه الآيات لا تحتمل غير ذلك ففى قوله تعالى
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى
فالعبد لا يكون إلا روحا وجسدا, و تصدير الآية بلفظ"سبحان"يدل على أن الأمر أعظم من أن يكون رؤيا مناميةأما قوله تعالى:
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
وقوله تعالى:
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
فألفاظ (عبده – الفؤاد – رأى – البصر) لا يمكن أن تطلق إلا إذا كان محمد بجسده و روحه
و طالما أن الإسراء و المعراج معجزة من معجزات محمد صلى الله عليه و سلم, فلابد أن تختلف فيها العقول وتحار فيها الأفهام, و إلا لو وصلت العقول و الإفهام إلى مكنون سر هذه الرحلة الإلهية لانتفى كونها معجزة و أصبحت شيئا عاديا يستطيع العقل البشرى المحدود أن يحيط بمكنونه و معرفة أسراره, و بمرور الوقت و تعاقب الزمن تنتفى فيها المعجزة و يصبح شأنها شأن المخترعات الحديثة تبهر العقول عند اختراعها و سرعان ما يألفها الناس بمرور الوقت و تصبح شيئا عاديا, و لكن ستبقى معجزة محمد خالدة باقية... و لتحار فيها الأفهام وتختلف فيها العقول فهذا سر الإعجاز فى هذه الرحلة الإلهية العجيبة
أما موقف قريش من الإسراء و المعراج فعندما أخبرهم النبى صلى الله عليه و سلم في صبيحة ليلتها كذبوه و صفقوا و صفروا استهزاءا به و سخرية منه وقالوا"ان رحلة بيت المقدس تأخذ منا شهرا ذهابا و شهرا ايابا, أتزعم أنك أتيته فى ليلة",و أسرع جماعة من المشركين إلى أبي بكر و أخبروه بأن محمدا يقول أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس و عاد به قبل أن يصبح, قال:أو قد قال ذلك, قالوا: نعم, قال:لئن قال إذن صدق, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه فى خبر السماء فى غدوه و روحه
وعادت قريش إلى محمد تريد إظهار كذبه فسألته أن يصف لهم بيت المقدس فجلى الله له البيت فوصفه لهم باباً باباً وأبو بكر يقول صدقت يا رسول الله فسمي من يومها بالصديق
ثم عادت قريش تطالبه بأشياء تبرهن بها على صدق قوله فذكر لهم أنه مر ببني فلان وهم نيام ولهم اناء فيه ماء قد غطوه فكشف غطاءه و شرب ما فيه ثم غطاه كما كان و أخبرهم بان القافلة ستصل بعد مغيب شمس هذا اليوم يتقدمها جمل أورق عليه غرارتان أحدهما بيضاء و الأخرى برقاء, و بالفعل وصلت القافلة فى الوقت و على الهيئة التى اخبر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و سألتها قريش على أمر الاناء فأخبرتهم بما ذكره الرسول صلى الله عليه و سلم
و مع ذلك لم تصدق قريش الرسول و كذبته, و عادت إلى أشد مما كانت عليه من الجمود و الصد و الاتهام و استمر محمد يدعو كل من لقيه إلى الإسلام