لم يلق حادث الهجوم الانتحاري الذي وقع أخيرا, علي مبني السفارة الدانماركية في العاصمة الباكستانية إسلام أباد, ما يستحق من الاهتمام العربي والإسلامي, سواء علي الصعيد الإعلامي أو الرسمي.. فقد ضاع الخبر في زحام الأخبار, ولم يجد أحد من الإعلاميين أو المسئولين العرب, وقتا لكي يستنكر, إلا إشارة عابرة هنا وهناك, كان من بينها تصريح لمتحدث باسم الجامعة العربية, قال فيه, إن الاعتداء يتنافي مع روح الإسلام السمحة, وإن مثل هذه الأحداث تؤدي إلي المزيد من التشويه في صورة الإسلام والمسلمين في مناطق مختلفة من العالم.
وكما أنه لا خطأ في الربط بين انفجار سيارة مفخخة في جراج سفارة الدانمارك في إسلام أباد وتجدد أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم ـ صلي الله عليه وسلم ـ في فبراير الماضي, حيث قامت بعض الصحف الدانماركية, باعادة نشر بعض هذه الرسوم, بعد أن ألقت شرطة كوبنهاجن القبض علي مسلم دانماركي علي خلفية الاشتباه في تخطيطه لقتل أحد الرسامين الذين رسموها, فلاحظ ـ كذلك ـ الربط بين هذا الانفجار و حملة التهييج والتحريض التي قادتها بعض وسائل الإعلام, وبعض الشخصيات الإسلامية, وبعض أحزاب وجماعات تيار الإسلام السياسي, في بعض البلاد العربية والإسلامية, عقب إعادة النشر.
صحيح إن اعادة نشر هذه الرسوم المسفه ينطوي علي استفزاز, ولكن من الصحيح ـ كذلك ـ أن رد الفعل قد اتسم ـ كالعادة ـ بالتنطع, أي المبالغة, إذ ربطت حملة التهييج هذه المرة, من دون مبرر, بين إعادة نشر هذه الرسوم و الفيلم التليفزيوني التسجيلي القصير, الذي أخرجه, نائب في البرلمان الهولندي, وينطوي علي زعم بأن الإسلام دين يدعو أتباعه لممارسة العنف ضد أتباع الأديان الأخري, وهو ما استغله الذين خططوا للحملة وأداروها, ليصعدوا مطالبهم, ولم يقبلوا بالاجراءات التي اتخذتها حكومات إسلامية, احتجت بالطرق الدبلوماسية لدي حكومتي البلدين, أو استدعت السفراء للتشاور, أو منعت الصحف التي نشرتها من دخول بلادها, ولم يكتفوا بتجديد الدعوة لمقاطعة سلع البلدين, حتي تعتذر حكومتاهما, وحتي تصدر المجالس التشريعية فيهما, قوانين تجرم التطاول علي الرسل والأنبياء والأديان السماوية, بل وحذروا من حدوث ما لاتحمد عقباه, أو كعباه كما كان المونولوجست الراحل عمر الجيزاوي ينطقها!
ذلك منطق يتجاهل الحقائق التي تقول إن القانون الدانماركي ينطوي بالفعل علي نص يجرم التطاول علي الأديان, وأن المسلمين الدانمركيين سبق لهم أن قدموا بلاغا ضد الصحيفة التي نشرت الرسوم, ولكن المدعي العام حفظها لأنه لم يجد في هذه الرسوم إساءة للنبي الكريم ـ صلي الله عليه وسلم ـ أو تطاولا علي العقيدة الإسلامية, بل مجرد نقد لبعض التقاليد الإسلامية.. ويتجاهل ـ كذلك ـ أن الحكومة الدانماركية سبق لها ـ في إعلانات مدفوعة الأجر نشرتها الصحف العربية, أن الرسوم لا تعبر عن رأيها, وأنها تأسف لنشرها, وأن الحكومة الهولندية أعلنت رفضها لفيلم النائب الهولندي, وحظرت إذاعته في المحطات الرسمية, ورفضت القنوات التليفزيونية الخاصة بثه, مما اضطر صاحبه لبثه علي شبكة الإنترنت!
أما أهم ما يتجاهله هذا المنطق, فهو أن الدعوة للمقاطعة الاقتصادية لسلع البلدين, تنطوي علي مطالبة بتوقيع عقوبة جماعية تطول كل الدانماركيين وكل الهولنديين, بما في ذلك المسلمون الذين يقيمون في البلدين أو يحملون جنستيهما, لمجرد أن فردا قليلا من السفهاء الذين ينتمون للبلدين قد تطاولوا برسوم سفيهة أو فيلم سخيف علي نبي المسلمين أو دينهم, وهو ما يخالف نصا صريحا في القرآن الكريم, هو الآية الكريمة ولا تزر وازرة وزر أخري التي أقرت مبدأ شخصية العقوبة, قبل قرون من صدور الدساتير وإعلانات حقوق الإنسان التي تؤكدها عليها.
وليس التطاول علي الأديان عموما, ظاهرة جديدة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر علي الأقل منذ قرنين, وهو تطاول لا يقتصر علي الإسلام, بل يشمل كذلك الأديان والمذاهب, التي يؤمن بها الأوروبيون أنفسهم, ولكن الجديد هو هذا الهوس الذي يدفع أجهزة إعلام عربية وإسلامية, إلي تسليط أضواء زائدة علي الحد, علي كل تصريح أو خبر أو سطر في كتاب, يصدر في الغرب وينطوي علي مساس بالإسلام, بصرف النظر عن مكانة وتأثير الشخص ـ أو المنبر ـ الذي قاله أو نشره.. ليتخذه محترفو التجارة بالإسلام في سوق السياسة والإعلام, ذريعة لتصدر شاشات الفضائيات, ليظهروا ـ أمام عوام المسلمين ـ في صورة الغيورين الوحيدين علي دين الله, والمؤهلين وحدهم لحكم الأمة, والدفاع عن مقدساتها, فيدعون للتظاهر والاحتجاج والمقاطعة ويهددون بالويل والثبور و عظائم الأمور, و يطالبون باعتذار رسمي وإلا حدث ما لا يحمد عقباه.. لينتهي ذلك كله إلي تنظيم متطرف مثل طالبان باكستان يقرر أن ينفذ هذا الذي لا يحمد كعباه ليس غضبا للرسول ولكن سعيا لحكم باكستان وأفغانستان.. فنتحول ـ نحن المسلمين ـ من مجني علينا.. إلي جناة.. ومن ضحايا إلي مجرمين.
وتلك هي الجريمة التي يرتكبها في حق الإسلام والمسلمين أسيادنا في التنطع.